سورة طه - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}.
يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل، حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم وغُلِب كل الغلب- شرع في المكابرة والبهت، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة، فتهددهم وأوعدهم وقال {آمَنْتُمْ لَهُ} أي: صدقتموه {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي: وما أمرتكم بذلك، وافتتم عليّ في ذلك.
وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بَهْت وكذب: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي، لتظهروه، كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف 123].
ثم أخذ يتهددهم فقال: {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي: لأجعلنكم مثلة ولأقتلنكم ولأشهرنكم.
قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أي أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى. فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه.
فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل، و{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي: لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين. {وَالَّذِي فَطَرَنَا} يحتمل أن يكون قسمًا، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات.
يعنون: لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، المبتدئ خلقنا من الطين، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.
{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي: فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك، {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار.
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي: ما كان منا من الآثام، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قال: أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفَرَمَا، وقال: علموهم تعليمًا لا يعلمه أحد في الأرض. قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى، وهم من الذين قالوا: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ}.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: خير لنا منك {وَأَبْقَى} أي: أدوم ثوابًا مما كنت وعدتنا ومنيتنا. وهو رواية عن ابن إسحاق، رحمه الله.
وقال محمد بن كعب القُرَظِي: {وَاللَّهُ خَيْرُ} أي: لنا منك إن أطيع، {وَأَبْقَى} أي: منك عذابًا إن عُصِيَ.
وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضًا:
والظاهر أن فرعون- لعنه الله- صمم على ذلك وفعله بهم، رحمهم الله؛ ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة، وأمسَوْا شهداء.


{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)}.
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد، فقالوا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} أي: يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} كقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36]، وقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى: 11- 13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77].
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا إسماعيل، أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن الناس تصيبهم النار بذنوبهم، فتميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحمًا، أذن في الشفاعة، جيء بهم ضبائر، ضبائر، فبُثُّوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة، أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل».
فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن يزيد به.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي حدثنا حيان، سمعت سليمان التيمي، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فأتى على هذه الآية: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا من أهلها، فإن النار تمسهم، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فتجعل الضبائر، فيؤتى بهم نهرا يقال له: الحياة- أو: الحيوان- فينبتون كما ينبت القثَّاء في حميل السيل».
وقوله: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أي: ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أي: الجنة ذات الدرجات العاليات، والغرف الآمنات، والمساكن الطيبات.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا هَمَّام، حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس».
ورواه الترمذي، من حديث يزيد بن هارون، عن همام، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: كان يقال: الجنة مائة درجة، في كل درجة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فيهن الياقوت والحلي، في كل درجة أمير، يرون له الفضل والسؤدد.
وفي الصحيحين: «أن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء، لتفاضل ما بينهم». قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء؟ قال: «بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».
وفي السنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما».
وقوله: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي} أي: إقامة وهو بدل من الدرجات العلى، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين أبدا، {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي: طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، وصدق المرسلين فيما جاءوا به من خَبَر وطلب.


{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}.
يقول تعالى مخبرًا أنه أمر موسى، عليه السلام، حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، أن يسري بهم في الليل، ويذهب بهم من قبضة فرعون. وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة. وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب، فغضب فرعون غضبًا شديدًا وأرسل في المدائن حاشرين، أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورَسَاتيقه، يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 54، 55] ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه، ساق في طلبهم {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] أي: عند طلوع الشمس {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ} أي: نظر كل من الفريقين إلى الآخر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]، ووقف موسى ببني إسرائيل، البحر أمامهم، وفرعون وراءهم، فعند ذلك أوحى الله إليه أن {اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} فضرب البحر بعصاه، وقال: انفلق بإذن الله {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] أي: الجبل العظيم. فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض؛ فلهذا قال: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا} أي: من فرعون، {وَلا تَخْشَى} يعني: من البحر أن يغرق قومك.
ثم قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ} أي: البحر {مَا غَشِيَهُمْ} أي: الذي هو معروف ومشهور. وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم: 53، 54]، وكما قال الشاعر:
أنَا أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري ***
أي: الذي يعرف، وهو مشهور.
وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8